__________________________________________
الصراع بين الرؤية البصرية والوهم في الفن الحديث


عبد الله الخطيب

الفن هو التحول في (العقل البشرى) وبدء ذلك التحول هو تطور يد الانسان ومقدرتها على خلق (الادوات) التي يحتاجها لخلق المزيد من المنفعة من الطبيعة و عناصرها المحيطة به، وانتقال ذلك التطور (كمعرفة) الى عقله عن طريق التفاعل العضوي بين اليد والدماغ، وهذه ميزة كبرى تميز الانسان عن غيره من الكائنات العليا التي تعيش معه، (وبالضرورة) تحولت تلك المقدرة الى (خبرة) اصبحت بالحتم التاريخي والتحول الكمي (الاساس) الكبير في نشوء المجتمعات المدنية ومن تراكماتها تكونت الحضارة.
عاش الانسان ببساطة وتفاعل مع ماأنتجته تلك الحضارة وخصوصاً مع الاشياء التي تلبي طلباته المادية والروحية معتمدا الرؤية البصرية التي يحددها الواقع وكلما تطورت تلك الاشياء وتعددت، تعقدت علاقته معها، وعن طريق التفاعل معها، إكتشف عن طريق الجس الغامض والحدس المبهم، ان للاشياء عالماً اخر غير هذا الذي يلمسه في اشكالها الخارجية عن طريق الرؤية البصرية التي يحددها الواقع والمنعكسة في فنه البدائي، فتكونت (الاساطير) وظهر (الرمز) في تعبيره عن تلك الاساطير والاحاسيس في فنه البدائي (الرسم والرقص والنحت و الاساطير).
وهكذا سار الانسان متفاعلا مع (الزمان والمكان) وتجاربه الفردية والجماعية حتى دخل عصر العلم، الذي يعتمد (التجربة)، التي فتحت امامه عصر الكشف والاستبصار.
ان التطور السريع في هذا المجال الذي احرزه العالم في القرون الثلاثة (الثامن عشر والتاسع والعشرين) كان له أبلغ التأثير في تحطيم الصورة المتماسكة للحياة التي تكونت عبر العصور القديمة التي عاشها الانسان (كبدائي) ضمن تفاعل ذاته المطلقة مع الطبيعة، الا ان كثيرا من مستحدثات التطور العلمي جعلت الانسان الذي لايعتمد المنطلق الجدلي في تفاعله مع تلك المستحدثات يشعر بأنه يعيش ضمن حياتين، حياة متفاعلة مع الوجود المرئي، واخرى تعتمد الاحساس الغامض والحدس بان وراء هذه الاشياء المادية توجد حياة اخرى غير مادية، لايمكن التعبير عنها الا عن طريق الحدس (الصوفي) والاحساس بها من دون وجود البرهان على وجودها ضمن ابعاد هندسية تخص المادة المرئية، وهذا ماسقط فيه كثير من الفنانين والادباء والشعراء أثناء الثورة العلمية في القرن التاسع عشر.
في ذلك (السقوط) بدأ يتطور (اللاوعي) البدائي عند الانسان في فعالياته وتعقد في دلالات رموزه التاريخية، وظهر ذلك في سلوك بعض الفنانين كصراع بين البصيرة التي تعتمد الوعي والحدس الذي يعتمد (اللاوعي) والوهم، حاول الطب (السايكولوجي) ان يحلل ذلك (الصراع) وان يصل الى معرفة العلاقات الغامضة بين اللاوعي والوعي، تلك العلاقات الغامضة التي انعكس مفعولها في اعمال كثير من الفنانين (الرسامين) والادباء الشعراء والقصاصين فقد حدد الطب النفسي خطورة سيطرة (اللاوعي) على (الانا الواعي) مركز التفكير والشعور والحدس والاساس، ان وظائف (الوعي) هذه التي حددها العالم النفساني (يونك) تؤهل الانسان للتعامل مع انطباعات العالم التي تلقاها من الداخل والخارج، وان يدمجها (في العمل الفني).
لقد ظهرت بدايات (الفن الحديث) مع بواكير القرن العشرين وتطور التكنولوجية تطوراً معقداً وسريعاً معتمدة تطور علوم الفيزياء الحديثة (الالكترونية) بالخصوص، وعلم البيولوجيا منها على الحصر (طبيعة الجينات الحياتية وهندستها الوراثية وسلوكها الغريب طبيعة تركيب المادة الذري، إنعكس ذلك الاتجاه العلمي على دراسة سلوك الانسان في ضوء ماجاء به (كارل ماركس وفرويد ويونك وادلر ووليم وجيمس وشكنر واريك فروم وغيرهم من العلماء والفلاسفة وعلم النفس الفردي والانثروبولوجي فاصبح الانسان كالمادة له (شكل وجوهر)، أي تكون وجوده الفكري والسلوكي من الصراع القائم بين عقله الواعي (المادي) المستقر وعقله الباطن القلق، أي الصراع بين الرؤية البصرية التي تعتمد (المنطق) وقلق (اللاوعي) البعيد عن أي منطق (أي الوهم).
كان (كاندنسكي) الفنان الفعال في التعبير عن رؤياه الداخلية، و للخلفية الروحية لحياة الاشياء (حسب رأيه) في اعماله الفنية وكان يعتمد اصول الفلسفة المثالية التي جاء بها (نيتشه وشوبنهاور) كأساسات لها (راجع نيتشه/ هكذا تكلم زرادتش) وقد تطور هذا الاتجاه في منتصف القرن العشرين في اوروبا وامريكا برعاية الفكر البورجوازي، وظهر في اعمال فنانين كبار الى حالة لم يهجر الفنان عالمه المحسوس فحسب بل والمجتمع ايضاً، واصبح الفن، فردياً، منعزلاً، يعتمد فعل (اللاوعي) الذي يشبه فعل (جسيمات) الذرة المجهرية (حسب رأي التجريديين المثاليين) وهذا مايرفضه العلم الحديث لدراسة الانسان، في خالة انفصال (اللاوعي) عن الوعي في العمل الفني وسيطرة الاول، يفقد الفنان حسه الاجتماعي، الجذر الاساس الذي يعتمده بناء الشخصية، ثم ان مقارنة سلوك (اللاوعي) الذي تكون تاريخياً عن طريق نظرية (الكم) من تفاعل الانسان مع الانسان ومع الطبيعة ومظاهرها، بسلوك الذرة، الفيزياوي، كما عبر عن ذلك عالم النفس الامريكي (ويلم جيمس) أي ان المحتويات السايكولوجية، تشكل كما تشكل مكونات الذرة في المجال المغناطيسي، وتظهر بنظام معين وبشكل مقدر داخل تلك المنطقة النفسية التي ندعوها (اللاوعي) يرفضها سلوك الانسان الابداعي، لانها (جبرية ميكانيكية)، لان الابداع لايمكن الا اذا انطلق عقل الانسان بحرية فردية في تفاعله مع الاشياء، ثم ان (اللاوعي) يعتمد منطق (الاحلام) غير المنضبط في أحكامه، وكان إعتماده الحد الفاصل بين اسلوبين متناقضين، الاسلوب الذي يعتمد المنطق كما هو ظاهر في الفنون الكلاسيكية وبعض أساليب (الرومانتيكيين) والاخر الذي اعتمد (اللاوعي) أي (اللامنطق) وأهمال (السببية) كما في الفنون الحديثة التي إعتمدت الوهم.
ان هذا الاتجاه الاخير في الفن التشكيلي ظهر في رؤية الرسام الفرنسي (سيزان 1839-1906) كان يعتمد (لحظات خاطفة) من تفاعل العقل الواعي واللاواعي، في ومضات سطوح الاشياء وغموضها، ويحاول النفاذ الى واقعها، وبذلك تمكن سيزان ان يفصل (إدراكه الحسي) بالطبيعة، وماتفعله (وراء ذلك الحس) أي (إثارة التراكمات) المترسبة في العقل اللاواعي بعكس الفنان (مونه) الذي اعتمد تأثيرات الضوء المباشرة وفعلها الفيزياوي على الحواس (شبكية العين بالحصر) في هذا الصراع بين ماترسله الحواس الى العقل الواعي، وماتثيره من (كوامن) في العقل الباطن في اعمال الفنانين ظهر (ماتيس / 1869-1954) واسلوب (الوحشيين جماعته (أطلق الناقد لويس نوكسيل هذا الاسم عليهم عام 1905). كان هذا الاسلوب حسب ماعبر عنه (ماتيس) يعتمد (التعبير) أي اعتماد تفاعل (العقل اللاواعي) كما يحدث في بعض (الاحلام) مع العقل الواعي، ويقول، العمل الفني (فكري) أي اعتماد (الوعي) الذي يتضمن فعل (التنظيم) أي وضوح الصورة و (التعبير) أي نقاء الحس (فعل اللاوعي) (هربرت ريد/الموجز ص/32) أي (الادراك) الغامض للشئ (فعل اللاوعي) والوهم.
وقد عمقت هذه الارهاصات (المثالية) واللاعلمية في كثير من مواقعها الفنية والاجتماعية (الاراء والفلسفات التي افرزتها الحرب الكونية التي دمرت الحضارة الانسانية وذات الانسان الفلسفات التي فرزتها الحرب الكونية التي دمرت الحضارة الانسانية وذات الانسان ومن هذه الفلسفات (الوجودية) التي جاء بها (سارتر) و (كامو) انه هذه الفلسفة ولدت احساساً عاماً بأن الانسان وحيد في هذا العالم انه منقطع الصلة عن نظم الايمان، وان عمله المبدع ان يجسد خلاصه في (الفن) وحده، وعلى ذلك إنحسر الفنان الى (ذاته) مقر (عقله الباطن) وهوساته واوهامه، ويتحسس مشاعره كما يفعل المتصوف الذاهل عن الوجود، يحاول ان يتخلص من (قلقه) وهذا هو السبب الرئيس الذي اوجد سلسلة من الحركات الفنية البصرية الصغيرة، الضيقة اعقب الواحدة، الاخرى بوتيرة متسارعة (التعبيرية التجريدية، التجميع، الفن الشعبي..الخ) والشيء الذي يجمع هذه الاساليب هو اهتمامها بتطوير (الشكل) والاهتمام به، واهمال (المضمون) كلياً.
وفي هذه الفترة ظهرت مدرستان في الفن (الواقعية الجديدة) ومدرسة (الذاتية الجديدة) ومن تفاعلها ظهر الاسلوب (السريالي) وبين (1963-1965) و ظهرت حركة (الفلوكس) التي جمعت (الموسيقيين والراقصين والرسامين والشعراء و النحاتين) التي سارت على نهج (الدادائيين) باطلاق الفرد من كل عوامل الكبح المادية والعقلية والسياسية، واصبح موضوع الفن المعاصر (الرسم والنحت) بدون اسلوب في صراع دائم بين الرؤية البصرية والوهم، يعتمد (سحر الاشياء) وموسيقى الالوان، وفي نهاية الستينيات عاد التنظيم وبالاخص في مجال (الرسم) أي تحويل الرسم (في بعض الحالات) الى تحليل ايديولوجي من حيث التكوين.
واستمرت مسيرة الفن منذ ذلك الوقت وحتى الان بدون نهج ثابت له مميزاته الواقعية واهدافه الانسانية، مضطرب بين مختلف المدارس الذاتية التي تعتمد الوهم والاخرى التي لاتعتمد أي شيء.

مجلة المدى، http://www.almadapaper.com/sub/05-389/p13.htm
__________________________________________

الفن الحديث بين الحداثة والعولمة


عبد الله الخطيب
بعد الحربين العالميتين وفشل الادراك الانساني في حل مشاكله الاجتماعية بالطرق السلمية بدلاً من طريق البداوة والتوحش، انعكس ذلك الموقف على سلوك الإنسان في حل مشاكله الذاتية والاجتماعية وعلى الاخص في سلوك الفنانين والادباء والمثقفين وتركز ذلك بالنسبة للمثقفين بصورة عامة على نفرتهم من الاوضاع العامة وعزلتهم عن التفاعل العضوي مع المجتمع وإنكفائهم إلى ذواتهم بعيدين عن ميدان التصارع والاحتراب، يفتشون عن واقع، لا واقع له يقع وراء الاشياء يحسون به من دون رؤية بصرية أو ادراك عقلي له، يفتشون عن سر الوجود وراء الوجود كما كان يفكر أو يحس بذلك انسان ما قبل الحضارة وقيودها ، ذلك الإنسان الذي كان لا يعرف "الكبت" بكل اشكاله الذاتي منه والاجتماعي وتأثيره البايولوجي بعكس الإنسان المعاصر، وفي التغير "السايكولوجي" لهذه الحالة، ان الإنسان التجأ إلى "لا وعيه"، أي اصبح عقله ومدركاته أو " المعرفة العقلانية” حدوداً مغلقة امام العقل الواعي، أي الحالة التي لا يعتمد الإنسان فيها " المنطق"، يعتمد "الإحساس الغامض" كما يفعل " المتصوف". يقول الفنان "كيريكو" لكل شيئ مظهران ، الاول الذي يراه الإنسان الطبيعي، والثاني " شبحي" يقع وراء " هيكله المادي" الذي لا تراه الا قلة نادرة من الناس في لحظات " استبصار" وتأمل ذاتي عميق ومجرد.
ان اعمال هذا الفنان تكشف عن " المظهر الشبحي" للاشياء " الذي يقع في منطقة الوهم من العقل الباطن"، انه يشبه الاحلام في تكوينه الغامض، يرتفع كرؤى من " اللاوعي" يشير إلى " تفكك" بصيرة الذات الانسانية. ان اغلب الاعمال الفنية الحديثة المعاصرة عبارة عن " محتويات النفس اللاواعية" التي دخلت الوعي بشكل ملموس كصور أو احلام أو افكار أو "حدوس" مضطربة ، ومن هذه المدارس الفنية التي اعتمدت (اللاوعي وقوانين العقل الباطن "السريالية" (انظر فرديناند آلكية / فلسفة السريالية ص 21)"، وما بعدها، التي اعتبر الشاعر الفرنسي " اندريه بريتون" مؤسساً لها. كتب يقول:" الا يمكن استخدام (الاحلام) ، لحل معضلة الحياة الاساسية؟ عن طريق تسوية المتناقضان بين "الوعي واللاوعي"؟
ان الاكتشافات الحديثة في "الفيزياء النووية" ومفاهيمها الجديدة عن المادة وتركيبها الذري الاساس التكويني للطبيعة الكونية وما جاء به علماء "البايولوجي" من غرائب تركيب "خلية" الاجسام الحية وسلوكها اضافة إلى ما توصل اليه علماء النفس من آراء في تحديد التكوين الذاتي للانسان واكتشاف " العقل الباطن" ودراسة طبيعة سلوك الجهاز العصبي للانسان واثر كل ذلك على سلوكه ونظرته للطبيعة والوجود الانساني، كان كل ذلك ضمن تطور العلوم التجريبية، ولا داعي لتأثير ذلك على الاساليب في " الرسم والنحت والادب وبصورة خاصة في الادب المسرحي"، ما دام الفن والادب، لا يمكن فصلهما عن واقع الوجود الطبيعي وحضور الإنسان الحضاري، مهما إتبع من أساليب حتى التي يعتمد "اللاوعي" في اعماله فانها مرتبطة جذرياً بالوجود الواقعي بصورة عامة، وان يتحول الفن في حقوله المتعددة إلى عمل "تجريدي" أو عمل "مهووس" وتتحول اعمال الفنانين إلى " رموز" تقع خلف الوعي أو في مجال "الاحلام" باسم "الحداثة" كأعمال "كاندنسكي" الذي يقول : (ينبغي لعين الفنان ان تتحول إلى حياته الداخلية "؟" ان هذا هو الطريق الوحيد لأعطاء "الرمز الصوفي" لرؤية الاشياء قيمته، كما صرح " فرانتس مارك" برفضه الوجود المادي، وقد اصبح التأمل في العالم بالنسبة للفنان "الذاتي" هو "النفاذ؟" في العالم. وكذلك موقف الفنان "بوك كلي" "انظر يونك/ الإنسان ورموزه ص /41" وكذلك كان موقف الفنان "جاكسون بولوك" الذي كانت اعماله التي رسمت "بلا وعي" مشحونة بعنف "انفعال" لا حد له في افتقارها للبناء تكون على الاغلب "مشوشة". ان لوحاته مثل " اللاّشيئ" الذي هو كل شيئ عنده يعني "اللاوعي ذاته" وبهذا حصل الانفصال عن عالم الطبيعة المزدحمة بالاشياء "الذاكرة والتصور الذهني والدوافع الذاتية"التي فقدت "الوعي" والشعور وعلاقتها الواحدة بالاخرى، هذا ما تدل عليه اعمال الفنانين الذين فقدوا الصلة الطبيعية مع الاشياء والمجتمع واعتمدوا فلسفة "ميتافيزيقية" في تحليل الواقع باسم "الحداثة"، واعتقد ان خلف الاشياء يقع واقع بلا حدود وبلازمن، كما في الاسلوب "التكعيبي" انظر: ادوارد فراي/ التكعيبية ص/21" وما بعدها وانظر بدقة الصور المنشورة في الكتاب وعلاقة الحداثة بها، وعلى هذا لم تعد لوحة الفنان الميتافيزيقي تحتوي على اشياء عيانية مبرراً ذلك "بالحداثة" التي جاءت بمقولة "رامبو" من الضروري ان نكون "محدثين" بصورة مطلقة" !؟" انظر ما لكولم برادي وجيمس ماكفالين/ الحداثة ح1/ ص/21" هذا الوعي بالحداثة دون حصرها علمياً وتفسيرها تاريخياً، ينتهي باليأس لتزايد سرعة هذه الحركة المتعلقة بالتطور المذهل للتكنولوجية الحديثة.
الحداثة بصورة عامة تتضمن "التجديد ودراسة النفس البشرية وتطورها بالنسبة لذلك التطور الحضاري التكنولوجي ، هذا إذا خضعت إلى "قانون الكم التاريخي" ، أي يكون العمل الحديث قد استوعب التطور الحضاري التكنولوجي "المادي والروحي" وحاول تحويله من فكرة إلى عمل، أي خلق منفعة للانسان، الا ان " اور يتكاكاست" يحمل "الحداثة" تحطيم كل ما هو انساني "اوريتكاكاست/ النزعة اللاانسانية في الفن ص/ 71" انها تأخذ الفن إلى ظلمات الفوضى والثرثرة واليأس (انظر فرانك كيرمود / حركات الحداثة) وهذا يعني انها لا تأخذ بيد الفن إلى مواطن الابداع، بل تأخذه إلى ضياع الهلوسات.
ان أزمة الفنان المعاصر ليست هي التحرر من قوانين التأريخ وإنما ازمة الحالة التي يجب ان يتعامل بها مع التأريخ أي تحول تراكمات "الكم" إلى كيف جديد. ان سبب عدّنا "الحداثة" سمة بارزة من سمات الفن المعاصر يكمن في كونها خير ما يمثل (الفوضى الحضارية) والفكرية التي تعم حياتنا المعاصرة والتي جاءت بها الحروب العالمية وانتصار الامبريالية الحديثة وسيطرتها على مقدرات تاريخ الشعوب ووجودها الاقتصادي والسياسي والثقافي، بينما هدف الحداثة" الواعية" هو توعية الإنسان وتوضيح اسباب تلك الفوضى الحضارية والفكرية لا أن تزيد تلك الفوضى غموضاً وارباكاً للعقل البشري.
لقد تغير عالمنا كثيرا وفقد توازنه السياسي والاقتصادي وواكبت ظاهرة التغيير هذه تفسيرات شتى، هناك تفسيرات دارون وماركس وفرويد، وقد عمق تلك التغييرات التطور السريع للتكنولوجيا واستغلال ذلك التطور سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً من قبل الامبريالية الحديثة، وقد انحرف مفهوم "الحداثة" تاريخياً، واصبحت "الفن" المتأتي من عدم الاعتراف بالامور الواقعية وتحطيم تكامل الشخصية الفردية في اعمال الفنانين البورجوازيين الذين اخضعوا الاعمال الفنية إلى قوانين السوق الاقتصادية واصبحت "الحداثة" الفن الذي حول الواقع إلى خيال نسبي "انظر مالكولم/ الحداثة ح 1 ص 27". واصبحت فن الابتعاد الصارم عن المجتمع، أي اصبحت (فن اللافن) الذي يحطم الاطر التقليدية ويتبنى رغبات الإنسان الفوضوية التي لا يحدها حد. بهذا المعنى لا تكون الحداثة "فن الحرية"، بل فن "الضرورة"، لذلك اصبحت "الحداثة" مشكلة حضارية وجمالية في آن واحد علما ان مهمة الفن، تحرير الواقع من كل ما يمت إلى الفوضى بصلة.
يقول "هربرت ريد" ان الوظيفة الاساس للفن كانت منح الإنسان القوة ازاء الطبيعة أو قوة لدعم الجماعة الانسانية، وكان اداة أو سلاحاً في يد الجماعة الانسانية في صراعها من اجل البقاء"، اما ما نراه من فوضى الاساليب الفنية فهي لا تعدو ان تكون مجرد فوضى " بورجوازية" لا هدف لها ولا مضمون.
وهناك من يريد اخضاع الفن الى"العولمة" أو العالمية بصورة ادق، والعولمة المعاصرة هي أعلى مراحل الامبريالية الحديثة (انظر فواد موسى/ الرأسمالية تجدد نفسها ص /62) كما كانت الامبريالية أعلى مراحل الاستعمار الحديث.
أن واقع الثقافة وعناصرها الرئيسة كالفكر والادب والفن ، بل ان الحياة الثقافية عموماً، تظهر ميلا واستعداداً فطرياً وحضارياً "للعالمية" دون "العولمة" الرأسمالية، والاديان خير مثال على ذلك لو تركت لطبيعتها دون سيطرة الامبريالية الحديثة واستغلالها لصالحها أو لصالح ثقافة معينة ، لان الافكار والقيم والمفاهيم والقناعات الانسانية تحمل في تطورها التاريخي بذور "العالمية" بمعنى الاستعداد للانتشار الحر "للافكار الخيرة" والانتقال العابر للحدود والتوسع على الصعيد العالمي.
ان العولمة الثقافية (الآداب ولفنون) التي تحافظ على الخصوصيات تقوم بنقل الافكار والقناعات والآيديولوجيات إلى المستوى العالمي، ولا شك في ان هذا الارتقاء بالثقافة إلى الطور العالمي سيسمح ببروز مفاهيم وقيم وقناعات ومواقف وسلوكيات انسانية مشتركة وعابرة لكل المناطق الحضارية والثقافية، لذلك فان الهدف النهائي للعولمة الثقافية الحرة هو ليس خلق ثقافة عالمية واحدة تهيمن عليها ثقافية معينة كما ترغب بذلك الامبريالية الحديثة (انظر: الحبيب الجنحاني م / عالم الفكر / مجلد 28/ ع/2/ 1999).
ومن ناحية اخرى فأن العولمة الثقافية تتضمن أيضاً بلوغ البشرية مرحلة الحرية الكاملة، وخير من يحمل هذه الرسالة هو الادب والفن، وذلك لانتقال الافكار والمعلومات والبيانات والاتجاهات والقيم والاذواق على الصعيد العالمي. إذا كانت تلك العولمة بعيدة عن سيطرة الامبريالية الحديثة. ففي ظل العولمة الثقافية يزداد "الوعي" بعالمية العالم وبوحدة البشرية وستبرز بوضوح الهوية والمواطنة العالمية وستقود الانسانية إلى النظر إلى ذاتها ككتلة واحدة ذات مصير واحد، وهذا لا يعني "تهميش" أو نفي الهوية الوطنية للفرد.
فالفن الذي يؤمن بتطور الحياة وبحقوق الإنسان وكرامته، يعتمد (الحداثة) التي تخضع لنظرية "الكم" وتحوّله إلى "كيف" جديد اضافة إلى دور (العالمية) في خلق ثقافة انسانية متطورة تعم سكان الارض، تدعو للسلم والخير والحرية لعموم البشر الذين يوجدون على سطح هذا الكوكب الجميل، الارض. اما ما تنتجه (الحداثة)التي تعتمد (الهلوسة) وجنون (أللاوعي) و (العولمة) التي تسيطر عليها الامبريالية فلا علاقة لهما بالفن والادب الانساني الاصيل.


مدار النقد، تحت اشراف: الناقد التشكيلي موسى الخميسي musagitan@tin.it، الإنترنت:
http://www.iraqiartist.com/Arabic/ar...Article119.htm